رسم المصحف: حكم الالتزام برسم المصحف العثماني ومذاهب العلماء في ذلك
سبق أن ذكرنا أن رسم معظم الكلمات القرآنية موافق للفظه؛ بمعنى أنه قياسي. أما الكلمات التي رسمت على خلاف التلفظ بها، هل يجوز أن تكتب في المصاحف بالرسم الإملائي الحديث، أم يجب، في كتابتها اتباع الرسم العثماني؟
مسألة التزام رسم المصحف خلافية، وللعلماء فيها ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول في حكم الالتزام برسم المصحف
حكم الالتزام برسم المصحف على المذهب الأول: ذهب إليه جمهور العلماء وهو وجوب اتباع الرسم العثماني في كتابة المصاحف و عدم مخالفته، وفي ذلك نصوص كثيرة لعلماء الأمة.
سئل الإمام مالك -رحمه الله- عن مخالفة رسم المصحف فقال: " لا أرى ذلك؛ ولكن يكتب على الكتبة الأولى".
قال السخاوي رحمه الله: والذي ذهب إليه مالك هو الحق.
وقال الداني: لا مخالف له -أي: لمالك - في ذلك من علماء الأمة. وأقوال العلماء في تأييد ذلك كثيرة؛ ومن ثم جعل العلماء موافقة الرسم أحد الأركان الثلاثة التي عليها مدار قبول القراءات.
وقد ذهب قوم من المتأخرين إلى أن الرسم معجز، وله سر لا يعلمه إلا الله، وقد حاول تفسير هذه الأسرار أبو العباس أحمد بن البناء المراكشي ( ت 721 هـ ) في كتابه: «عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل» وهذا القول لا يدل عليه دليل صحيح، والذي أوقع أصحاب هذا المذهب، ومذهب من يتطلب العلل للرسم هو ادعاء اطراد العال، وذلك ما لا يوجد في الرسم العثماني؛ لأنهم كتبوه على معهودهم في الرسم ولم يخترعوا رسماً خاصاً فيقال بطلب العلل لذلك، ثم إن أغلب العلل مبنية على الاصطلاح الحادث من الحذف والثبت والحركات وغيرها وهي متأخرة لم تكن في المصحف الامام أصلا.
المذهب الثاني في حكم الالتزام برسم المصحف
المذهب الثاني : ذهب إليه بعض العلماء ممن لم يقل بالتوقيف وهو جواز كتابة المصاحف بالرسم الإملائي حسب ما تقتضيه قواعد أهل صناعة الخط، واحتجوا على ذلك بأدلة:
1 - بأن الصحابة رضي الله عنهم - كتبوا المصاحف حسب ما كان لديهم من صناعة الخط، وكانوا غير مجيدين لها، فوقع منهم ما وقع من الأخطاء في رسم الكلمات القرآنية، فلا يجب علينا أن نتبعهم في ذلك الرسم؛ بل علينا أن نخالفهم فيه؛ لأن رسمهم قد يُوقع الناس في الخلط والالتباس والحيرة، ولا يمكنهم من القراءة الصحيحة.
2 - وبأنه لم يرد دليل شرعي يوجب كتابة المصحف برسم معين.
المذهب الثالث في حكم الالتزام برسم المصحف
المذهب الثالث: ذهب إليه بعض المتأخرين وبعض المعاصرين إلى جواز كتابة المصاحف بالقواعد الإملائية المعروفة للعامة من الناس مع الحفاظ على الرسم العثماني الأصيل للخاصة من الناس لما له من فوائد كبرى ومنها علاقة الرسم العثماني بالقراءات.
وفي هذا يقول الشيخ عبد العظيم الزرقاني: وهذا الرأي يقوم على رعاية الاحتياط للقرآن من ناحيتين:
1 - ناحية كتابة المصحف في كل عصر بالرسم المعروف فيه؛ إبعادا للناس عن اللبس والخلط في القرآن.
2 - ناحية ابقاء رسم المصحف الأول الماثور، يقرؤه العارفون به ومن لا يخشى عليهم الالتباس.
الراجح في حكم الالتزام بالرسم العثماني
الراجح من مذاهب حكم الالتزام برسم المصحف هو مذهب الجمهور، وذلك لوجوه:
1 - إن هذا الرسم الذي كتب به الصحابة القرآن الكريم كتبوه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 - أجمع الصحابة على الرسم لم يخالفه أحد منهم، وكان هذا الإنجاز الكبير في عصر الخلفاء الراشدين، واتباعهم واجب على الأمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي . . .
3 - أجمعت عليه الأمة منذ عصور التابعين، وإجماع الأمة حجة شرعية، وهو واجب الاتباع؛ لأنه سبيل المؤمنين، قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويَتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.
4 - للرسم العثماني فوائد مهمة، ومزايا كثيرة، خاصة أنه يحوي على القراءات المختلفة، والأحرف المنزلة، ففي مخالفته تضييع لتلك الفوائد وإهمال لها.
أما ما ذهب إليه أصحاب المذهبين الآخرين، فيمكن الرد عليهم بما يلي:
1 - فيها مخالفة الإجماع الصحابة والتابعين وأهل القرون المفضلة.
2 - القواعد الإملائية العصرية عُرضة للتغيير والتبديل في كل عصر، وفي كل جيل، فلو أخضعنا رسم القرآن الكريم لتلك القواعد لأصبح القرآن عرضة للتّحريف فيه.
3 - الرسم العثماني لا يُوقع الناس في الحيرة والالتباس؛ لأن المصاحف أصبحت منقوطة مشكلة؛ بحيث وضعت علامات تدل على الحروف الزائدة، أو الملحقة بدل المحذوفة، فلا مخافة على وقوع الناس في الحيرة والالتباس.
شارك مع أصدقائك
إرسال تعليق