نشأة وتطور العمل السياسي في الكويت | د. واثق السعدون

أن التجارب التاريخية والقيم والتقاليد المتوارثة لأي مجتمع من المجتمعات تؤثر في نوعية سلوك أفراده، وفي علاقاتهم المتبادلة، وفي نوعية تفسيرهم للماضي وتقييمهم للحاضر ونظرتهم للمستقبل، وهذا مايعرف بـ(المتغير التاريخي للسياسة)، وتأتي أهمية هذا المتغير في العمل السياسي من الدور الذي يلعبه في تفسير تطورات الأحداث و إدراك التأثيرات الداخلية والخارجية، وهو ما ينعكس أيضا على سلوك صانع القرار السياسي في تعامله مع القضايا المختلفة.

إن استعراضاً موجزاً لتاريخ الكويت السياسي وظهور الدولة الحديثة والوقوف عند بعض الأحداث والمواقف التي لعبت دوراً في رسم الحياة السياسية في الكويت يساعد في فهم آلية صنع القرار السياسي في هذا البلد (1).

  بصورة فعلية منذ نزول (العتوب) وهم فخذ من قبيلة (عنزة) العربية في هذه المنطقة الواقعة في الشمال الغربي للخليج العربي حوالي عام 1716 (2)، وبعد أن زاد عدد سكان الكويت بمن هاجر أليها من البادية ومن البلدان المجاورة، ونشأت المشكلات وأصبحت هنالك حاجة لمن يتفرغ لمواجهتها وحلها، رأى السكان في هذا المجتمع المحلي أن يختاروا من بينهم حاكماً.

وكان لـ(آل الصباح) من النفوذ والشوكة داخل العتوب، ما مكنهم من تسلم مقاليد السلطة، وذلك حين اجمع المستوطنون في الكويت عام 1752 على انتخاب عميد أسرة الصباح الشيخ (صباح بن جابر الصباح) (1752-1776)، حاكماً لهم، وهو بذلك يعد مؤسس الحكم في إمارة الكويت وقد عُرف فيما بعد باسم (صباح الأول) وعندما توفي في سنة 1776 انتقل الحكم إلى أبنه (عبدالله بن صباح الجابر الصباح) (1776-1814) برغبة الكويتيين واختيارهم أيضاً، وغدا الحكم في أسرة الصباح يتوارثه الأرشد فالأرشد منهم (3).

نشأة وتطور العمل السياسي في الكويت د. واثق السعدون

لقد أصبح للكويت كيان سياسي واضح المعالم في فترة حكم الشيخ (مبارك الصباح) (1896-1915) والذي عرف فيما بعد بـ(مبارك الكبير)، والذي برز بين حكام الكويت الأوائل بوصفه أول من آمن وعمل على إنشاء إمارة مستقلة بالرغم من إحاطة الكويت وقتها بجيران أقوياء (4).

وقد امتاز مبارك بشخصية قوية طموحة، وفي عهده دخلت الكويت في طور جديد من تاريخها، ونجح في تثبيت نظام حكمه وأعلى من شأن الكويت وأَسهَم إسهاماً فعالاً في أحداث الجزيرة العربية، وأهم تغيير حدث في نظام الحكم في عهد مبارك هو حصر وراثة الحكم في الأرشد من أبناء الشيخ مبارك وأحفاده (5).

قبل تولي مبارك الحكم كان ينظر للكويت من قِبل بريطانيا على أنها جزء من الإمبراطورية العثمانية لايرقى إلى مستوى الدخول في نزاع مع العثمانيين من أجله، لكن نية روسيا القيصرية بإنشاء محطة كبرى للتزود بالفحم في الكويت والتي ترافقت مع الترويج بأن الكويت ستكون المحطة النهائية لخط السكة الحديدية (برلين - بغداد) لفتت أنظار البريطانيين لـأهمية الكويت في ذلك الوقت (6).

وقد توافق هذا الأمر مع خشية الشيخ مبارك من أن يقوم العثمانيون بعمل عدائي ضده بسبب طموحه في الاستقلال والتوسع كما فعلوا مع حليفه ابن سعود في تلك الفترة (7)، فتم توقيع معاهدة 1899 بين بريطانيا ومشيخة الكويت المتمثلة بمبارك الصباح، وقد نصت هذه المعاهدة على التزام الشيخ مبارك وحكام الكويت الذين سيلونه بعدم التفاوض على أو تخصيص أي جزء من أراضي الكويت لأي دولة أخرى بدون موافقة الحكومة البريطانية، وبالمقابل تعهدت بريطانيا بموجب هذه المعاهدة بدعم حكام الكويت وتقديم الحماية والمساعدات المختلفة للكويت طالما لم يخلوا بالتزاماتهم في هذه المعاهدة (8).

وبسبب الظروف الدولية التي كانت تحيط بالإمبراطورية العثمانية وعجزها العسكري عن مواجهة بريطانيا، تعامل العثمانيون مع هذه المعاهدة بسياسة الأمر الواقع التي أفضت بالتالي إلى إبرام اتفاقية بين بريطانيا والإمبراطورية العثمانية في 29 تموز/يوليو عام 1913، اعترفت فيها الأخيرة بالمعاهدة البريطانية الكويتية، وبأن الكويت إمارة مستقلة تتمتع بالحماية البريطانية يكون فيها ممثل للإمبراطورية العثمانية دون أن يكون لها أو له الحق بالتدخل في شؤون هذه الإمارة، كما تم الاتفاق على أن تتولى الشركة البريطانية مد الفرع النهائي من خط (برلين - بغداد) وهو يصل بين البصرة والكويت (9).

وفي نفس العام 1913 أجري أول مسح جيولوجي بالكويت قامت به بعثة البحرية الملكية البريطانية وعثرت خلاله على تسريبات سطحية نفطية وغازية بمنطقتي بحرة وبرقان، وقد أضاف هذا الاكتشاف بعداً اقتصادياً في حساب أهمية الكويت بالنسبة للقوى العظمى (10).

وقد قامت بريطانيا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين بتوقيع عدد كبير من معاهدات الصداقة والحماية مع حكام الكويت (11)، ثم جاءت الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) التي كانت من نتائجها تكريس الهيمنة والنفوذ البريطاني على منطقة الخليج العربي ومن ضمنها الكويت.

يعد تأسيس مجلس الشورى الأول في عام1921 في عهد الشيخ (أحمد الجابر الصباح) (1921-1950) أول محاولة لإيجاد حياة نيابية في الكويت وانتخب له (حمد الصقر) رئيساً وتشكل هذا المجلس بالتعيين وليس بالانتخاب من مجموعة من وجهاء وتجار الكويت ولذلك لم يكن فاعلاً ومؤثراً في الحياة السياسية (12).

ثم تشكل المجلس التشريعي الأول عام 1938 نتيجة انتخابات محدودة وانتخب ولي عهد الكويت آنذاك الشيخ (عبدالله السالم الصباح)(1950-1965) رئيساً له (13).

وسار هذا المجلس بخطوات جدية للتصدي للأعباء الملقاة على عاتقه، وأول ما عمله هذا المجلس هو وضع قانون أساسي يعد أول وثيقة من نوعها في تاريخ الكويت *، وبعد تردد وقع الأمير هذه الوثيقة في 2 تموز1938 ولكن هذا المجلس أيضاً اصطدم بالحكومة وكان صداماً مسلحاً هذه المرة وقعت فيه حوادث قتل وسجن انتهت بحل المجلس (14).

وتشكل المجلس التشريعي الثاني في عام 1939 بالتعيين أيضاً من (14) عضو منهم (4) من الأمراء والباقي من الأعيان (15)، وجاء هذا المجلس ضعيفاً في تكوينه ومقدرته على الأداء وكان من الطبيعي أن يفشل، وانسحب أعضائه الواحد تلو الآخر إلى أن انتهى أمر هذا المجلس (16).

وبسبب الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) وانشغال بريطانيا بها وبتبعاتها وهي التي لم تزل في تلك الفترة مهيمنة على مجرى الأحداث في الكويت مرت البلاد بحالة ركود سياسي لغاية عام 1950 (17).

بالرغم من أن المستشارين البريطانيين كانوا باستمرار ينصحون حكام الكويت بإدخال مظاهر الديمقراطية إلى هذا البلد لمواجهة التدخلات الخارجية المحتملة من الجيران، وأن هذه النصائح كانت من العوامل المهمة التي ساعدت على إيجاد برلمان منتخب وصحافة حرة فيما بعد (18).

وفي 19 تموز/يوليو 1954 صدر قانون بتشكيل لجنة عليا لوضع سياسة موحدة للإصلاح الداخلي وتنظيم دوائر الحكومة، وانتهت اللجنة بإيجاد واحد وعشرين دائرة ومصلحة تتولى الأمور والمرافق العامة (19)، ومنذ صدور هذا القانون ولغاية العام 1961 تطور نظام الحكم على أساس أن الحاكم هو الرئيس الأعلى لجميع السلطات وكلمته الفصل في كل الشؤون وتعاونه الهيئات التالية، "المجلس الأعلى" ويتكون من (8) أعضاء من الأسرة الحاكمة ووظيفته إقرار القوانين والمصادقة على الأنظمة والموافقة على الميزانية وتحديد الاتجاهات المختلفة لسير الأعمال الرئيسة في الإمارة ورفع مقترحاته للأمير لكي يكون له الرأي الأخير في كل منها، و"اللجنة التنظيمية" وتتكون من (3) من المجلس الأعلى و(7) من رجال الكويت، ووظيفته إصلاح الجهاز الإداري وتقديم المقترحات بهذا الصدد إلى المجلس الأعلى، "الدوائر الحكومية" قبل إنشاء الوزارات الحالية وكان عددها قليل وكانت للدوائرالمهمة منها مجالس منتخبة أو معينة (20).

ساد في عهد حاكم الكويت الشيخ عبدالله السالم الصباح (1950-1965) اعتقاد بأن الظروف التي عقدت فيها معاهدة 1899 قد تغيرت لهذا شرع بالدخول في مفاوضات ومكاتبات مع الحكومة البريطانية لبناء وضع يلائم هذه التغييرات (21)، واجتمعت مجموعة من العوامل والاعتبارات المحلية والإقليمية والدولية التي دفعت بالكويت إلى الإسراع في استكمال خطوات استقلالها الفعلي.

  • فعلى المستوى المحلى ارتفعت الدعاوى الوطنية المطالبة باستقلال الكويت وإنهاء الحماية البريطانية.
  • وعلى الصعيد الإقليمي أثرت الحركة القومية العربية ومطالبتها للدول العربية بضرورة التمرد والاستقلال وإنهاء العلاقات الخاصة بالدول الاستعمارية على الوضع في الكويت.
  • أما في المجال الدولي فقد تدهور الوضع الدولي الخاص لبريطانيا، فلم تعد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وتقهقر مركزها في سلم توازن القوى العالمي.
لذا لم تعد بريطانيا قادرة على الحفاظ على وضعها الخاص في الكويت، فدخلت دول أخرى في حالة الصراع على المنطقة وثرواتها في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي (السابق)، ومن ثم جاءت المحصلة النهائية لتفاعل جميع هذه الاعتبارات في استقلال الكويت وانتهاء الحماية البريطانية عليها (22).

وتمثلت واقعة استقلال الكويت في تبادل حاكم الكويت الشيخ (عبد الله السالم الصباح) والمندوب السامي البريطاني في الخليج العربي، نيابة عن حكومة صاحبة الجلالة السير ويليام لويس (Sir William Lewis) مذكرتين تاريخيتين شديدتي الأهمية نتج عنهما مباشرة إلغاء اتفاقية عام 1899 وإعلان استقلال الكويت التام في 19 حزيران/يونيو 1961 (23)، وقبلت الكويت عضواً في الجامعة العربية في 20 تموز/يوليو 1961، وألغيت المديريات لتحل محلها الوزارات، وألفت أول وزارة في الكويت بعد الاستقلال برئاسة الشيخ (صباح السالم الصباح) (1965- 1977) وكان ولياً للعهد وقتها، وأجريت في 30 كانون الأول/ديسمبر 1961 انتخابات عامة لاختيار (20) عضواً لتكوين المجلس التأسيسي ليقوم بمهمة وضع دستور للبلاد (24).

وبدأت فترة انتقالية من اليوم التالي لإصدار القانون رقم1 لسنة 1962 الصادر في 6 كانون الثاني/يناير 1962 واستمرت حتى يوم العمل بالدستور الجديد في 28 شباط/فبراير1963 الذي تحدد لإتمامه سنة واحدة (25)، وتبادلت الكويت التمثيل الدبلوماسي مع معظم دول العالم وبخاصة مع الدول العربية والدول الكبرى وانضمت إلى هيئة الأمم المتحدة في 14 أيار/مايو 1963 (26)، وقد أقر المجلس التأسيسي مشروع الدستور بالإجماع بجلسته المنعقدة بتاريخ 3 تشرين الثاني/نوفمبر 1962، وتم تقديم الدستور إلى أمير دولة الكويت الشيخ عبدالله السالم الصباح في 8 تشرين الثاني /نوفمبر 1962 (كان يلقب من يحكم الكويت بحاكم الكويت وذلك حتى 19 تموز/يوليو 1961 حيث أصبح اللقب أمير الكويت)، وصادق الأمير على الدستور دون تغيير في 11 تشرين الثاني /نوفمبر 1962، ونشر في جريدة الدولة الرسمية (الكويت) في 12 تشرين الثاني /نوفمبر 1962 (27)، وتم العمل به في 28 شباط/فبراير1963.

وشهدت الكويت منذ بداية العهد الدستوري في 28 شباط/فبراير1963 ولغاية آخر انتخابات برلمانية في حزيران/يونيو 2009 (13) برلماناً منتخباً قابلها (26) حكومة، وطفت على الساحة السياسية منذ ذلك الوقت عدة أزمات خانقة أطاحت معظمها بالبرلمان المنتخب لحساب فرض هيبة الحكومة، حيث تعرض البرلمان الكويتي (مجلس الأمة) للحل (6) في الأعوام 1976، 1986، 1999، 2006، 2008، 2009 (28).

* من أهم بنود هذه الوثيقة هي المادة الأولى التي تفيد بأن الأمة مصدر السلطات ممثلة بهيئة نوابها المنتخبين، والمادة الثانية التي ذهبت إلى أن المجلس التشريعي مرجع لجميع المعاهدات والامتيازات الداخلية والخارجية، والمادة الخامسة التي نصت على إن رئيس المجلس التشريعي هو الذي يمثل السلطة التنفيذية في البلاد.


المبحث الأول من بحث صنع القرار السياسي في الكويت المنشور في مجلة دراسات اقليمية, 2010, المجلد 6, العدد 18.

بقلم

د.كتور واثق السعدون

الدكتور واثق السعدون مدير قسم الدراسات العربية في مركز أورسام لدراسات الشرق الأوسط في أنقرة ORSAM

full-width

المصادر والهوامش

(1) مشرف وسمي محمد الشمري، سياسة الكويت الخارجية في المنطقة العربية "1961- 1983"، رسالة ماجستير، كلية القانون والسياسة، جامعة بغداد، 1984، ص 34.
(2) قدري قلعجي، النظام السياسي والاقتصادي في دولة الكويت، دار الكاتب العربي، بيروت، 1975، ص9.
(3) عبد المجيد مصطفى وعثمان فيظ الله، دراسات عن الكويت والخليج العربي، مكتبة نهضة مصر، ط1، القاهرة، 1964، ص 345.

(4)Zahra Freeth, Kuwait Was My Home, First Published, George Allen & Unwin, 1956, London, P 26.

(5) عبد المجيد مصطفى وعثمان فيظ الله، المصدر السابق، ص 346.

(6)John Marlowe, The Persian Gulf in The Twentieth Century, First Published, Cresset Press, P 24.
(7) R. D. Cornwell, World History in the Twentieth Century, First published, Longmans, Green & Co Ltd, 1969, London, P 194.
(8) H. R. P. Dickson, Kuwait and her Neighbours, First Publishe, George Allen & Unwin, 1956, London, P 137.

(9) قلعجي، المصدر السابق، ص15.
(10) (الكويت تاريخاً وجغرافية)، مقالة منشورة على موقع مجلة (العربي) الكويتية في شبكة المعلومات الدولية

(11) Mordechai Abir, (Oil, Power and Politics), First Published, (Frank Cass & Co Ltd, London, 1974), P 8.

(12) عبد المجيد مصطفى وعثمان فيظ الله، المصدر السابق، ص 346، ص 347 .
(13) المعلومات متاحة على موقع مجلس الأمة الكويتي في شبكة المعلومات الدولية.
(14) عبد المجيد مصطفى وعثمان فيظ الله، المصدر السابق، ص 349- 351.
(15) المعلومات متاحة على موقع مجلس الأمة الكويتي في شبكة المعلومات الدولية.
(16) عبد المجيد مصطفى وعثمان فيظ الله، المصدر السابق، ص 351.
(17) المصدر نفسه، ص 351، ص 352.
(18) ظافر محمد العجمي، أمن الخليج العربي: تطوره وإشكالياته من منظور العلاقات الإقليمية والدولية، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2006، ص53.
(19) قلعجي، المصدر السابق، ص41.
(20) عبد المجيد مصطفى وعثمان فيظ الله، المصدر السابق، ص 253.
(21) عبد العزيز الرشيد، تاريخ الكويت، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1971، ص 309.
(22) المعلومات متاحة على موقع مجلس الأمة الكويتي في شبكة المعلومات الدولية.
(23) قلعجي، المصدر السابق، ص19.
(24) عبد العزيز الرشيد، المصدر السابق، ص 310.
(25) عبد المجيد مصطفى وعثمان فيظ الله، المصدر السابق، ص 256.
(26) عبد العزيز الرشيد، المصدر السابق، ص 311.
(27) المعلومات متاحة على موقع مجلس الأمة الكويتي في شبكة المعلومات الدولية.
(28) واثق محمد براك، الأزمة بين الحكومة والبرلمان في الكويت..جذورها وتداعياتها، نشرة (تحليلات إستراتيجية)، العدد 38، (مركز الدراسات الإقليمية، جامعة الموصل، 2008).

إرسال تعليق

اترك تعليقا (0)

أحدث أقدم